كولومبيا : مثال على قدرة الجامعات على المساهمة في بناء سلام دائم
شكّلت اتفاقية السلام في كولومبيا التي تمّ التوصل إليها مؤخراً خطوة تاريخية لوقف إطلاق نار بين الحكومة والجماعات المتمردة، بعد نزاع استمر أكثر من 50 عاماً. ولكن هذه الاتفاقية تطرح كذلك تحديات كبيرة مع سعي مختلف فئات المجتمع الكولومبي للتأقلم مع الوضع الجديد.
يأتي هنا دور جامعات الدولة لتؤدي مهمةً خاصةً خلال العملية الانتقالية، تتضمن قبول أفراد الجماعات المتمردة السابقة في التعليم العالي وتقديم دعم حقيقي لضحايا العنف؛ كما يمكن للجامعات توفير الفرصة للمصالحة بين أعداء الماضي.
ووفقاً لمصدر غير رسمي من الوكالة الكولومبية لإعادة الدمج والتوحيد (Agencia para la Reincorporación y la Normalización)، فقد قام نحو 500 مقاتل سابق من الجماعات المسلحة بالتسجيل في الجامعات الكولومبية.
ويشمل هؤلاء أفراداً من مختلف الرتب، خاصة من الأعضاء السابقين في القوات المسلحة الثورية الكولومبية (FARC) التي تعتبر أكبر مجموعات المتمردين. وتضم مجموعة الطلاب الجدد رجالاً ونساءً من مجتمعات ريفية فقيرة، جُنّد الكثيرون منهم في سنّ صغير جداً، وقبل بلوغهم الخامسة عشرة من العمر أحياناً. وبعد مرور 50 عاماً من الحرب، كان بعضهم قد أمضى معظم سنوات حياتهم البالغة في منظمات الجماعات المتمردة.
ونظراً لهذا التنوع فسيحتاج البعض إلى محو للأمية وتعليم أساسي للانتقال إلى التعليم التقني والمهني، في حين سيحتاج آخرون إلى التسجيل في برامج تعليمية لاكتساب مهارات تقنية تسمح لهم بالتقدم للحصول على وظائف والمشاركة في الاقتصاد الرسمي. أما المجموعة الصغيرة من المقاتلين السابقين الذين كانوا يحظون بخلفية أكاديمية جيدة عند انضمامهم إلى الجماعات المسلحة، فسيسجلون مباشرةً في الجامعات.
وبغض النظر عن قطاع النظام التعليمي الذي ينضم إليه المقاتلون السابقون في القوات المسلحة الثورية الكولومبية، فإن التحدي الأساسي يكمن في دعمهم أثناء سعيهم لاكتساب مهارات معرفية وعملية محددة، بالإضافة إلى مهارات اجتماعية مرتبطة بالمواطنة الديمقراطية.
وسيكون على الجامعات تكييف نموذج التعليم الجامعي التقليدي لدمج خبرة هؤلاء الأشخاص، إذ أظهرت تجارب سابقة في جميع أنحاء العالم حول العمل مع الشريحة المهمشة من الشباب أهمية الاعتراف بهويات هؤلاء الطلاب الاجتماعية والسياسية والثقافية، فضلاً عن أخذ المعرفة والمهارات التي يحملونها معهم على محمل الجد لإثراء المجتمع الجامعي.
لكن لا يمكن أن تنجح الجامعات في تحقيق ذلك بمفردها، حيث ستتطلب العملية تعاون كل من الحكومات الوطنية والمحلية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص لضمان توفير التعليم فرصا حقيقية وإعادة بناء حياة هؤلاء الأشخاص.
كما لا يمكن للجامعات أيضاً قبول المقاتلين السابقين دون التمعّن في تأثيرهم الأوسع على المجتمع الجامعي، حيث أن عدم وضوح الخيط الفاصل بين الضحايا والجناة يتطلب التفكير ملياً في الأماكن المجتمعية وسيناريوهات التمييز المحتملة، مما قد يولّد توترات جديدة.
ويتمثل الهدف الإجمالي في الابتعاد عن التمييز المبسط بين الأشخاص "الصالحين" و"السيئين"، وفهم التعقيدات التي تتضمنها حقبة ما بعد الحرب، ويمكن من خلال الاعتراف بإنسانية "الآخر" تنمية المجتمع ليتقبل جميع الاختلافات.
مهارات جديدة
تتمتع الجامعات، من خلال مهمتها التعليمية، بالقدرة المساهمة في إحداث تحول بنظام اجتماعي يتسم بعدم المساواة. وسيتطلب ذلك تدريب المدرسين لاعتماد منهجية تعليم أكثر شموليةً وتعزيز التفكير الأخلاقي وإتاحة المشاركة والنقد والإبداع، وحتى الاحتجاج، كوسائل تفتح الطريق لتعزيز الابتكار والتغيير.
ولا شكّ أن المؤسسات الأكاديمية تستطيع أن تؤدي دور نقاط التقاء بين المتمردين السابقين والمجتمع، وأن تساعد في إعادة دمج المقاتلين السابقين بشكل ناجح في الحياة المدنية والسياسية. ولا زالت تفاصيل العلاقة المتجددة بين الجامعات والمتمردين السابقين قيد التطوير ولم توضع بشكل كامل، وتستلزم الإجابة عن العديد من الأسئلة.
على سبيل المثال، هل يجب منح المقاتلين السابقين قبولاً مفتوحاً في الجامعات والسماح لهم بالاندماج الكامل مع الطلاب؟ هل يجب توفير معاملة تفضيلية أو برامج مخصصة لتلبية الاحتياجات المحددة للمقاتلين السابقين من المؤسسات الأكاديمية؟ هل يجب على الجامعات إجراء حوار مع المقاتلين السابقين كمجموعة ذات مصالح محددة في المجتمع، بدلاً من دمجهم؟
يُشار في هذا السياق إلى أن جميع هذه المناقشات قد بدأت للتو.
وعلى الرغم من أن كولومبيا تبدو وكأنها حالة خاصة، إلا أن العديد من الدول تواجه مشكلة تزايد أعداد الشباب والشابات الساخطين الذين يحتاجون لمنحهم الأمل وفرصا حقيقية لتأدية دور إيجابي في المجتمع. فإنجلترا على سبيل المثال تضم أعداداً متزايدة من الشباب الموجود خارج نطاق العمل والتعليم والتدريب، في حين أن الفقر وانعدام فرص العمل والتعليم الضعيف والتفكك الأسري تؤدي في دول مثل جنوب أفريقيا إلى ظهور عصابات عنيفة مكوّنة من الشباب.
وتقدم الابتكارات التي يتم التوصل إليها في الجامعات الكولومبية معلومات مهمة عن كيفية تطوير الجامعات لنفسها، لتضطلع بمسؤولية أكبر لتعليم أولئك المستبعدين والمهمشين حالياً وإعادة دمجهم ضمن المجتمع.