هل نحن مبرمجون فطرياً لنحمل الأطفال الباكين؟
يتمتع المواليد الجدد بقوة كبيرة، فعلى الرغم من عدم قدرتهم على القيام بالكثير من الأمور بأنفسهم، إلا أنه يمكنهم أن يتحكموا بالعالم من حولهم واستدعاء من يساعدهم بمجرد بكائهم. ويتمتع من يرعى الأطفال، وخاصةً الأهل، بحساسية خاصة لبكاء الرضع، وهو أمر متوقع بالنسبة لهم نظرا لاهتمامهم ومصلحتهم في العناية بأطفالهم، لأنهم يريدونهم أن يبقوا على قيد الحياة.
ولكن هل يعتبر حمل طفل باكٍ أكثر من مجرد استجابة واعية منطقية؟ تشير دراسة جديدة نشرت في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم، أننا مبرمجون فطرياً للتصرف بهذه الطريقة. وتقدم الدراسة أدلة على أن بكاء الأطفال يحفز نشاطاً محدداً في الدماغ ويؤدي إلى استجابة متماثلة لدى الأمهات في جميع أنحاء العالم. إلا أن هذا يمكن أن يكون كذلك دليلاً على استجابة ثقافية مشتركة مكتسبة أكثر من كونها مبرمجة فطرياً في الدماغ.
وراقبت مجموعة دولية من الباحثين استجابات العناية لـ700 أم تقريباً لأطفالهن البكر بعمر 5 أشهر من 11 دولة في 5 قارات. وعندما بدأ الرضع بالبكاء، لم تزد الأمهات من مستوى العاطفة (مثل التقبيل على سبيل المثال) أو العناية (مثل إطعام الرضع)، ولكنهن جميعاً استجبن عن طريق حمل أطفالهن وحضنهم والتحدث إليهم، مما يشير إلى أن هذا سلوك عالمي على الأغلب (كما كنا نتوقع).
ولمعرفة ما إذا كانت هذه السلوكيات المشتركة ثقافياً مدعومةً بنشاط عصبي عالمي، قام الباحثون بقياس مخططات الدماغ لأمهات أمريكيات لأطفال بكر تبلغ أعمارهم 3 أشهر، وأمهات صينيات من شنجهاي لأطفال تبلغ أعمارهم 7 أشهر. وحفز الاستماع إلى تسجيل لبكاء أطفال مناطق من الدماغ ترتبط بالنية للتحرك والحمل والكلام ومعالجة الصوت، كما نشّط منطقتين في الدماغ مرتبطتين بسلوك الأمومة.
ويقترح الباحثون أنه نظراً لتماثل التحفيز الدماغي بين الثقافات فإن هذا السلوك يعتبر "تلقائياً ومزروعاً في الجهاز العصبي لمن يرعون الأطفال، مما يشير إلى كونه مبرمجاً مسبقاً بشكل فطري أو محدداً بيولوجياً. إلا أن سبب حدوث هذه المخططات الدماغية والسلوكيات المتماثلة لا يزال غير واضح. إن هنالك العديد من النشاطات التي تمارس بشكل متماثل في جميع أنحاء العالم، من قيادة السيارات إلى لعب كرة القدم، ولكننا لا نعتبر أنفسنا مبرمجين فطرياً عليها.
فعلى سبيل المثال، تشير الأدلة إلى تحفيز مناطق من أدمغة السائقين ترتبط بتحليل المعلومات البصرية، واختيار الحركة والتنسيق بين العين واليدين عند محاولتهم الحفاظ على مسافة آمنة من السيارة التي أمامهم، في حين يرتبط الأداء الضعيف بتفعيل مناطق من الدماغ مسؤولة عن الكشف عن الأخطاء.
وإذا قمنا بالمقارنة بين السائقين الأمريكيين والصينيين، فمن المرجح أن نجد نشاطاً دماغياً متماثلاً في الثقافتين، ولكن ذلك لن يقدم لنا أي معلومات حول كيفية نشوء مهارات قيادة السيارات لدى البشر. ولن نفترض، بكل تأكيد، أننا مبرمجون فطرياً على قيادة السيارة.
ولهذا السبب، لا أعتقد أن البيانات الجديدة يمكن أن تؤكد أو تنفي اقتراح الباحثين. والأهم من ذلك، أنهم وجدوا أن مناطق الدماغ المفعّلة لدى الأمهات لم تتفعّل لدى أفراد آخرين. ويشير ذلك إلى أن استجابة الأمهات لبكاء الأطفال ليست أمراً فطرياً، وإنما هي مكتسبة ومطورة.
وعلى سبيل المثال، من الممكن أن تستجيب الأمهات بدايةً لبكاء أطفالهن بالعناية بهم (إطعامهم، أو تجشئتهم، أو تغيير حفاضاتهم). إلا أنه مع بلوغ الأطفال عمر 5 أشهر، كما هو الحال في الدراسة، فإن الأمهات يكتشفن أن حملهم والتحدث معهم هي طريقة أفضل لتهدئتهم. وعندما يكون الرضيع أكبر سناً، فإن تشتيت انتباهه بلعبة يمكن أن يكون استراتيجية أكثر نفعاً. ولذا سيكون من المثير للاهتمام أن نرى ما إذا كانت استجابة الأمهات ثابتة أم مرنة على مر الزمن.
وتوجد لدينا أدلة تشير إلى أن هرمون أوكسيتوسين، والذي يرتبط بسلوك الترابط بين الأم وأطفالها لدى الجرذان، يتزايد بشكل طبيعي من المراحل الأولى وحتى المراحل الأخيرة من الحمل. ولذا يمكن أن يؤدي إلى تشكيل رابط عاطفي بين الطفل ومن يعتني به. ولكن ذلك غير مجدٍ عندما نفكر بسلوك معقد مثل تربية الأطفال نتيجة لعوامل بيولوجية بحتة.
على سبيل المثال، تتزايد مستويات هرمون الأوكسيتوسين لدى الأهل البشريين وأطفالهم بعد التفاعل فيما بينهم. ولكن نسب الأوكسيتوسين ترتفع بمعدل أقل لدى الأطفال الأيتام الذين يتفاعلون مع والديهم بالتبني بعد إهمالهم من قبل الرعاة الرئيسيين لهم. كما ترتفع مستويات الأوكسيتوسين لدى الجرذان عندما تقوم الأم بلعق جرائها. ويبين ذلك مدى أهمية العوامل الاجتماعية والجسدية إلى جانب العوامل البيولوجية.
وإذا أراد باحثون أن يبينوا أن سلوك الأهل محدد مسبقاً بشكل بيولوجي، يمكن أن يبدأوا بمقارنة استجابة أدمغة الأمهات اللاتي يلدن أول طفل لهن قبل وبعد الولادة. والسؤال المطروح هنا هو هل يحفز الحمل أو الولادة تحولاً لدى الأمهات يؤدي إلى استجابة مماثلة لتلك التي تبديها أمهات الأطفال الذين يبلغ عمرهم 5 أشهر، أم يكون التغيير تدريجياً بشكل أكبر، ما مما يتماشى مع الاعتقاد بأن الاستجابة مكتسبة؟ كما يمكنهم أن يقارنوا بين الأمهات البيولوجيات والأمهات بالتبني. هل يحفز التبني الاستجابة السلوكية أو مخططات الدماغ ذاتها؟
كما يمكن للباحثين أن يتعاملوا مع المسألة عبر محاولة تحديد التفاعلات الجسدية والبيولوجية والاجتماعية التي يمكن أن تسبب اكتساب استجابة الأمومة، لننتقل من الجدل التقليدي حول "الطبيعة مقابل الرعاية"، لنصل إلى مناقشة أكثر تفصيلاً. وبدون هذه الصورة الأوضح لحقيقة الأمر، فإن القول بأن البشر مبرمجون فطرياً للاستجابة لبكاء طفل سيكون متسرعاً جداً، مهما بدا ذلك أمرا طبيعيا.