نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة: متاهة لا تحظى بإعجاب أحد
تتفق جميع الأطراف تقريباً على أن نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، الذي يساهم بحوالي 17% من الناتج المحلي الإجمالي، يعاني من مشكلات عدة؛ فالتكاليف المرتفعة، والجودة المتدنية، وتعويضات التأمين والمدفوعات المشتركة المربكة حتى بالنسبة للخبراء، والفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء، ما هي إلا جزء يسير من تلك المشكلات.
ومع ذلك، يعكس هذا النظام القديم الأسس الدستورية والثقافة السياسية في البلاد التي تنطوي جميعها على شكوك جدية إزاء التدخل الحكومي، وازدراء للسلطة المركزية، إلى جانب تمجيد الحريات الفردية والمسؤولية الشخصية.
وتشكّل ترجمة هذه الأيديولوجية إلى دولة حديثة مسعى معقداً غالباً ما يؤدي إلى تركيبات تتشابه مع تصوّرات "روب غولدبرغ" (Rube Goldberg)، وقد لا يتجلى هذا الأمر بشكل أوضح مما هو عليه في نظام الرعاية الصحية الأمريكي. وتمثلت النتائج في إنشاء مزيج من البرامج غير المنسقة وغير الفعالة في كثير من الأحيان، والتي لا تشمل الجميع، وتعتبر مكلفة للغاية وكثيراً ما توفر جودة منخفضة من الرعاية.
هذا وتستمر صراعات الماضي في الحاضر، كما لاحظنا في عشرات المحاولات الفاشلة التي قام بها الجمهوريون لإلغاء واستبدال قانون الرعاية الميسورة، وتوقيع إدارة الرئيس باراك أوباما عليه.
بوجه أعم ومن الناحية الأيديولوجية، فشل البلد في التوصل إلى توافق في الآراء فيما يتعلق بالدور المناسب للحكومة في توفير الرعاية الصحية لمواطنيها. أما على الصعيد السياسي، فيصبح إصلاح أي جزء من نظام الرعاية الصحية بمثابة موضوع شائك وجدلي. ولكن من الناحية العملية، يعتبر تدخل الحكومة، الذي غالباً ما يتم تجاهله، موجوداً في كلّ مكان. وفي الواقع، توصلت الحكومات على مستوى الولايات والمستوى الفيدرالي على حد سواء إلى التأثير على كل مكون من مكونات نظام الرعاية الصحية الأمريكي.
نظام مجزأ
توجد أمام الحكومات ثلاثة خيارات رئيسية لتوفير المنافع، إذ يمكنها تنظيم سلوك كيانات القطاع الخاص، أو تقديم الخدمات مباشرة، أو توفير التمويل فقط من خلال تقديم الخدمات من قبل كيانات أخرى. وتعتمد حكومات الولايات والحكومة الاتحادية في الولايات المتحدة على الخيارات الثلاثة.
يحصل نصف الشعب الأمريكي اليوم على التأمين عن طريق أرباب العمل، وهو يخضع لشبكة من اللوائح المحلية والاتحادية تكون معقدة في كثير من الأحيان وذلك وفقاً لطبيعة الترتيبات المعتمدة.
غير أنه وبمرور الزمن اضطلعت الحكومة الاتحادية بدور متزايد الأهمية في تنظيم التأمين، الأمر الذي توّج مؤخراً بإقرار قانون الرعاية الصحية الميسورة في عام 2010. كما تقدم الحكومة الاتحادية حوافز ضريبية سخية بهدف تشجيع برامج التأمين الصحي التي يقدمها أرباب العمل بتكلفة سنوية تتجاوز 260 مليار دولار أمريكي.
وعلى الرغم من الإجراءات التنظيمية والدعم المالي، فإن أكثر من نصف الأمريكيين غير مشمولين بالتأمين المقدم من قبل أرباب العمل، مما يتطلب أشكالاً أخرى أكثر فعالية من المشاركة الحكومية.
خطط مختلفة للمسنين والفقراء والمحاربين القدماء
تشمل الرعاية الطبية الاتحادية البحتة، والتأمين الاجتماعي، وترتيبات اعتماد نظام "جهة الدفع الواحدة"، الأمريكيين المسنين وبعض الأشخاص من ذوي الإعاقات، وهؤلاء الذين تم تشخيصهم بمرض كلوي متقدم، وهم جميعا يمثلون نحو 14% من عدد السكان.
ونظراً لأن النظام في تصميمه يفصل بين تغطية المستشفى وتغطية الطبيب، فإن جميع الأمريكيين في سن العمل مطالبون بالدفع للنظام الذي يمنحهم تأمين المستشفيات عندما يبلغون الخامسة والستين. ويخضع الطبيب المتطوع وتغطية تكاليف وصفات العقاقير الطبية إلى مجموعة من الأقساط الفردية والإعانات الحكومية. ويختار الكثير من كبار السن شراء حماية تأمين إضافية للتعويض عن الإعانات التي غالباً ما تكون محدودة في إطار هذه البرامج. كما يمكن للأفراد المؤهلين عوضاً عن ذلك اختيار الحصول على تغطية شاملة من خلال شركات التأمين الخاصة في برنامج يسمى "ميدكير أدفانتيج".
هذا وتم وضع أسس التغطية للفقراء وشبه الفقراء من خلال برنامج اتحادي حكومي مشترك يسمى "ميديك ايد"، الذي يوفر تغطية لنحو 20% من الأمريكيين. وفي ظل غياب السلطة الدستورية القادرة على إجبار الولايات على اتخاذ الإجراءات، تسعى الحكومة الاتحادية إلى إقناع الولايات للتعاون من خلال تحمل غالبية التكاليف ومنحها صلاحيات واسعة في هيكلة برامجها الفردية. ونتیجة لذلك، تتفاوت البرامج بشکل کبیر بين الولایات، من حیث الأشخاص المؤهلين والفوائد التي یحصلون عليها.
وتعتبر الطريقة التي توفر من خلالها أمريكا الرعاية الصحية لمحاربيها القدماء واحدة من الاستثناءات لهذه التدابير. ومن المثير للاهتمام، وفي إجراء لا يمكن وصفه إلا بالاشتراكي، يستطيع المحاربون القدماء في أمريكا الحصول على خدمات شاملة، غالباً ما تكون بدون مقابل، من خلال شبكة وطنية من العيادات والمستشفيات المملوكة بالكامل والمشغلة من قبل الحكومة الاتحادية. وتوجد ترتيبات مماثلة بالنسبة للأمريكيين الأصليين.
أما أولئك الذين استبعدوا من مختلف الترتيبات المحدودة، فيُتركون لطلب التغطية بأنفسهم من شركات التأمين الخاصة. وفي ظل إصلاحات سوق التأمين والدعم المالي لقانون الرعاية ميسورة التكلفة، أصبح اليوم نحو 7% من الأمريكيين قادرين على شراء التأمين من القطاع الخاص، في حين لا يزال 9% منهم لا يحظون بتأمين صحي. وتسعى مجموعة أخرى من البرامج إلى توفير فوائد محدودة لهؤلاء الأفراد، من خلال غرف الطوارئ والمراكز الصحية المجتمعية الخاصة التي تدعمها الحكومة ومئات العيادات والمستشفيات المملوكة من قبل المدن والمقاطعات والولايات ونظم الجامعات الحكومية.
هل ساهم قانون الرعاية ميسورة التكلفة في تغيير شيء ما؟
عندما تم إقرار قانون الرعاية ميسورة التكلفة في عام 2010، أشاد المؤيدون به إذ أنه سيُحدث نقلة بالولايات المتحدة بما يتماشى مع أقرانها من الدول الصناعية. أما المنتقدون، فاعتبروا أنه يشكل تهديداً ووصفوه بالخطوة الأخيرة نحو الاشتراكية في أمريكا.
ولم يكن أي من الجانبين محقاً في تقييمه.
فقانون الرعاية ميسورة التكلفة كان يعتبر استمراراً لسلسلة طويلة من التعديلات التدريجية القائمة على التجربة والخطأ، للظروف التي استجدت على النظام الأمريكي القرن العشرين، ولا سيما عندما كان القانون يستخدم لتوسيع فرص الحصول على الرعاية الصحية. وفي أغلب الأحيان، يسهم قانون الرعاية ميسورة التكلفة في استمرارية نظام تم إعداده من مختلف المكونات الخاصة والعامة عبر الجمع ما بين بعض الإصلاحات في سوق التأمين، رغم أهميتها، والتمويل الإضافي.
أما فيما يتعلق ببرنامج "ميديك ايد"، فقد أضاف هذا البرنامج ببساطة المزيد من التمويل الاتحادي، لجلب المزيد من الأفراد إلى البرنامج. وبالنسبة للأشخاص الذين يشترون التأمين بأنفسهم، فقد سهّل عملية شراء التأمين من خلال إنشاء أسواق إلكترونية وتوفير التمويل للأفراد ذوي الدخل المنخفض في شكل إعانات لأقساط التأمين الصحي والتكاليف التي يتكبدها الاشخاص على نفقتهم الخاصة. والأهم من ذلك، أنه يبدأ إصلاحات هامة في سوق التأمين تهدف إلى تسهيل الوصول إلى الخدمات، بما في ذلك اشتراط توفير التأمين بصرف النظر عن الظروف الموجودة مسبقاّ، من خلال الحد من الثمن الذي يمكن أن يدفعه المستهلكون على أساس الجنس والعمر، ومن خلال طلب الحد الأدنى من الخدمات المدرجة، وغيرها.
وإن كان يتعيّن تنفيذ قانون الرعاية ميسورة التكلفة بالكامل، سيُترك الملايين من الأمريكيين بدون تأمين، كما أن المسائل الشائكة المتعلقة بالجودة والتكاليف سيتم، إلى حد كبير، إغفال علاجها.
المستقبل... يلفه الغموض
يعتبر نظام الرعاية الصحية الأمريكي متاهة معقدة، إذ يمكننا أن نرى مع تطوره عبر الزمن تعديلات تدريجية وعشوائية على الظروف المتغيرة بمرور الوقت، من دون عقلانية أو تخطيط مسبق وشامل.
من الناحية النظرية، يمكن للمرء أن يتصور بسهولة نهجاً أبسط؛ فعلى سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد نظام "جهة الدفع الواحدة" على غرار الأنظمة الموجودة في العديد من البلدان الصناعية الغنية الأخرى. ولكن من الناحية العملية، فإن السلطة الوطنية المحدودة، والانقسامات الأيديولوجية الصارخة حول الدور المناسب للحكومة الوطنية في توفير الرعاية الصحية، وظهور مصالح شخصية متنوعة، تؤدي إلى ما يخالف النهج التطوري المستمر الذي يعتبر مستبعداً من الناحية السياسية.
في ظل مثل هذا النظام، يصبح استغلال أوجه معينة في نظام الرعاية الصحية الأمريكي وإلقاء اللوم على الطرف الآخر من الضروريات السياسية، كما لا يستطيع أي طرف بمفرده إصلاح النظام بنفسه بدون المخاطرة بغضب الناخبين. والواقع أنه لا يوجد توافق آراء أيديولوجي أساسي بشأن نوع نظام الرعاية الصحية الذي ينبغي أن تحظى به الولايات المتحدة.
وليس لدى أي طرف، في ظل هذه الظروف، الكثير من الحوافز للتعاون من أجل الشروع في الإصلاحات الهادفة اللازمة لتحسين الجودة، وإمكانية الحصول على الخدمات، والتكاليف. وبالتالي، ليس أمامنا سوى نظام مكلف للغاية، وغالباً ما يكون من نوعية رديئة، يحرم ملايين الأمريكيين من الحصول على الرعاية المناسبة.